هيبة السلطان في التواضع






هيبة الإمام في تواضعه :قال ابن السماك

لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك.وقال عبد الملك بن مروان: إن أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة.و ذكر عن النجاشي أمير الحبشة: أنه أصبح يوما جالساً على الأرض والتاج على رأسه، فأعظم ذلك أساقفته، فقال لهم: إني وجدت فيما أنزل الله تعالى على المسيح عليه السلام، يقول له: " إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع لها أتممتها عليه " . وإنى ولد لي الليلة غلام فتواضعت لذلك شكراً لله تعالى.وقال ابن قتيبة: لم يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قوال الشاعر في بعض خلفاء بني أمية:يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسموأحسن منه عندي قول الآخر.فتى زاده عز المهابة ذلة ... فكل عزيز عنده متواضعوقال أبو العتاهية:يا من تشرف بالدنيا وطينتها ... ليس التشرف رفع الطين بالطينإذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكينذاك الذي عظمت في الله نعمته ... وذاك يصلح للدنيا وللدينوقال الحسن بن هانئ في هيبة السلطان مع محبة الرعية:إمام عليه هيبة ومحبة ... ألا حبذا ذاك المهيب المحببوقال آخر في الهيبة، وإن لم تكن في طريق السلطان:بنفس من لو مر برد بنانه ... على كبدي كانت شفاء أناملهومن هابني في كل شيء وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائلهولابن هرمة في المنصور:له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائلكريم له وجهان وجه لدى الرضا ... أسيل ووجه في الكريهة باسلفأم الذي آمنت آمنة الردى ... وأم الذي أوعدت بالثكل ثاكلوليس بمعطى العفو من غير قدرة ... ويعفو إذا ما مكنته المقاتلوقال آخر في الهيبة:أهاشم يا فتى دين ودنيا ... ومن هوى في اللباب من اللبابأهابك أن أبوح بذات نفسي ... وتركي للعتاب من العتابوقال أشجع بن عمرو في هيبة السلطان:منعت مهابتك النفوس حديثها ... بالشيء تكرهه وإن لم تعلمومن الولاة مفخم لا يتقى ... والسيف تقطر شفرتاه من الدموقال أيضا لهارون الرشيد:وعلى عدوك يا ابن عم محمد ... رصدان ضوء الصبح والإظلامفإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلاموقال الحسن بن هانئ في الهيبة فأفرط:ملك تصور في القلوب مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكانما تنطوي عنه القلوب بفجرة ... إلا يكلمه بها اللحظانحتى الذي في الرحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان
(1/10)

فمجاز هذا البيت في إفراطه أن الرجل إذا خاف شيئاً وأحبه أحبه بسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه ودمه وجميع أعضائه، فالنطف التي في الأصلاب داخلة في هذه الجملة. قال الشاعر:ألا ترثي لمكتئب ... يحبك لحمه ودمهوقال المكفوف في آل محمد عليه السلام:أحبكم حباً على الله أجره ... تضمنه الأحشاء واللحم والدموفي مثل هذا قول الحسن بن هانئ:وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلقفإذا خافه أهل الشرك خافته النطف التي في أصلابهم، على المجاز الذي ذكرناه.ومجاز آخر: أن النطف التي أخذ الله عليها ميثاقها يجوز أن يضاف إليها ما هي لا بد فاعلة من قبل أن تفعله، كما جاء في الأثر: إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته، فقال: هؤلاء أهل الجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء أهل النار، وبعمل أهل النار يعملون.ومن قولنا في الهيبة:يا من يجرد من بصيرته ... تحت الحوادث صارم العزمرعت العدو فما مثلت له ... إلا تفزع منك في الحلمأضحى لك التدبير مطرداً ... مثل اطراد الفعل للاسمرفع الحسود إليك ناظره ... فرآك مطلعاً مع النجمأبو حاتم سهل بن محمد، قال: أنشدني العتبي للأخطل في معاوية:تسمو العيون إلى إمام عادل ... معطى المهابة نافع ضرارونرى عليه إذا العيون لمحنه ... سيما الحليم وهيبة الجبارحسن السيرة والرفق بالرعيةقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما أوصاه به من الرفق بالرعية: " ولو كنت فظاً غليظ لانفضوا من حولك " .وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير كله.ولما استخلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب، فقال لهما: أشيرا علي. فقال له سالم: اجعل الناس أباً وأخاً وابناً، فبر أباك، واحفظ أخاك، وارحم ابنك. وقال له محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، واعلم أنك لست أول خليفة.وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت؛ ما لك لا تنفذ في الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. فقال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه وتكون فتنة.وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة، أما بعد، فإن أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق عليك، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما للرعية عندك.وقال المنصور لولده عبد الله المهدي: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه، فإن فكرة العاقل مرآة تريه حسناته وسيآته. واعلم أن الخليفة لا تصلحه إلا التقوى، والسلطان لا تصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل. وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وانقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه.وقال خالد بن عبد الله القسري لبلال بن أبي بردة: لا يحملنك فضل المقدرة على شدة السطوة، ولا تطلب من رعيتك إلا ما تبذله لها، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي: ما أحوج ذا القدرة والسلطان إلى دين يحجزه، وحياء يكفه، وعقل يعقله، وإلى تجربة طويلة، وعين حفيظة؛ وأعراق تسري إليه، وأخلاق تسهل الأمور عليه؛ وإلى جليس شفيق، وصاحب رفيق؛ وإلى عين تبصر العواقب وقلب يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم الكبر لم يسلم من فلتات اللسان، ولم يتعاظم ذنباً وإن عظم، ولا ثناء وإن سمح.
(1/11)

وكتب أردشير إلى رعيته: من أردشير المؤيد ملك الملوك ووارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة الدين، والأساورة الذين هم حفظة البيضة، والكتاب الذين هم زينة المملكة، وذوي الحرث الذين هم عماد البلاد: السلام عليكم، فإنا بحمد الله إليكم سالمون. فقد وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها، ونحن مع ذلك كاتبون بوصية فاحفظوها: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو، ولا تحتكروا فيشملكم القحط، وتزوجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب، ولا تعدوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تبقي على أحد، ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على مصر، وقال له حين ودعه: أرسل حكيماً ولا توصه. أي بني، انظر إلى عمالك، فإن كان لهم عندكم حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية، وإن كان لهم عشية فلا تؤخره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها، تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق. واستشير جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى. وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة؛ فإن أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة. ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة، فليكونوا أصحابك وجلساءك، ثم اعرف منازلهم منك على غير استرسال ولا انقباض. أقول هذا واستخلف الله عليك.أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن مجالد عن الشعبي، قال: قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في شيء من السياسة إلا مرة واحدة، استعملت رجلاً فكسر خراجه، فخشي أن أعاقبه ففر إليه واستجار به فأمنه. فكتبت إليه: إن هذا أدب سوأ من قبلي. فكتب إلي: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلين جميعاً فتمرح الناس في المعصية، ولا نشتد جميعا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزمقالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جده هزله، وغلب رأيه هواه، وجعل له الفكر صاحباً يحسن له العواقب، وأعرب عن ضميره فعله ولم يخدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن كيده.وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، وكان ولي عهده: يا بني، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعية أو تملكه الرعية إلا حزم أو توان.وقالوا: لا ينبغي للعاقل أن يستصغر شيئاً من الخطأ أو الزلل، فإنه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع الكبير؛ فقد رأينا الملوك تؤتى من العدو المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الداء اليسير، ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار.وقالوا: لا يكون الذم من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث: كريم قصر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغناً، أو لئيم بلغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بطراً، أو رجل منع حظه من الإنصاف فشكا تفريطا.ومن كتاب للهند: خير الملوك من أشبه النسر حوله الجيف، لا من أشبه الجيف حولها النسور.وقيل لملك سلب ملكه: ما الذي سلبك ملكك؟ فقال: دفع شغل اليوم إلى غد، والتماس عدة بتضييع عدد، واستكفاء كل مخدوع عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ قدراً لا يستحقه، أو أثيب ثواباً لا يستوجبه.وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثراً بعد عين.وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحزم الخلفاء. كانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر قالت: كان والله أحوزياً نسيج وحده، وقد أعد للأمور أقرانها.وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحداً هو أحزم من عمر، كان والله له فضل يمنعه أن يخدع، وعقل يمنعه أن يخدع.وقال عمر: لست بخب، والخب لا يخدعني.ومر عمر رضي الله عنه ببنيان يبنى بآجر وجص فقال: لمن هذا؟ قيل: لعاملك على البحرين. فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. فأرسل فشاطره ماله.وكان سعد بن أبي وقاص يقال له: المستجاب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة سعد. فلما شاطره عمر ماله، قال له سعد: لقد هممت. قال له عمر: بأن تدعو علي؟ قال: نعم. قال: إذا لا تجدني بدعاء ربي شقيا.

Comments

Popular posts from this blog

ماهي مبادئ الديداكتيك تابع ؟

هندسة وتدبير التعلمات : 1- كيف أدبر فضاء القسم ؟

حديث خلق الروح الاعظم :نور رسول الله حديث لم تسمعه