المنفلوطي: الحرية

  














                              الحرية مصطفى لطفي المنفلوطي :                                  
استيقظت فجر يوم الأيام على صوت هرة تموء بجانب فراشي وتتمسح ني ،وتلح في ذلك إلحاحا غريبا، فرابني أمرها ،وأهمني همها وقلت : لعلها جائعة ،فنهضت، وأحضرت لها طعاما فعافته ،وانصرفت عنه .فقلت : لعلها ظمآنة ،فأرشدتها إلى الماء فلم تحفل نه ونشات تنظر إلي نظرات تنطق بما تشتمل عليه نفسي من الآلام والأحزان ،فاثر في نفسي منظرها تأثيرا شديدا ،حتى تمنيت أن لوكنت سليمان افهم لغة  الحيوان ،لأعرف حاجتها ،وأفرج كربتها وكان باب الغرفة مرتجا ،فرايت انها تطيل النظر إليه وتلتصق بي كلما رأتني اتجه نحوه، فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن افتح لها الباب ، فأسرعت بفتحه فما وقع نظرها على الفضاء ،ورأت وجه السماء ،حتى استحالت حالتها من حزن وهم إلى غبطة وسرور ،وانطلقت تعدو في سبيلها ،فعدت إلى  إلى فراشي وأسلمت راسي إلى يدي ، وانشات أفكر في أمر هذه الهرة ، وأعجب لشانها وأقول : ليت شعري هل تفهم هذه الهرة معنى الحرية فهي تحزن لفقدانها وتفرح بلقياها ؟ اجل .انها تفهم معنى الحرية حق الفهم ،وماكان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من اجلها ،وماكان تضرعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعيا وراء بلوغها .
وهنا ذكرت أن كثيرا من اسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به الهرة المحبوسة في الغرفة ،والوحش المعتقل في القفص ،والطير المقصوص الجناح من الم الأسر وشقائه ، بل ربما كان بينهم يفكر في وجهة الخلاص ويتلمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن ويأنس به ويتلذذ بآلامه اسقامه .من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها :أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميدانا في الحرية من الحيوان الناطق ، فهل كان نطقه شؤما عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيدا بها قبل أن يصبح ناطقا مدركا لها؟                           
يحلق الطائر في الجو،ويسبح السمك في البحر ويهيم الوحش في الأودية والجبال ،ويعيش الإنسان رهين المحبسين محبس نفسه ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد.                               
صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالا، وسماها تارة ناموسا  وأخرى قانونا ، ليظلمه باسم العدل ،ويسلبه منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام .
صنع له هذه الآلة المخيفة ،وتركه قلقا حذرا ،مروع القلب ،مرتعد الفرائص يقيم من نفسه على نفسه حراسا تراقب حركات يديه ورجليه وحركات لسانه وخطرات وهمه وخياله ،لينجو من عقاب المستبد ويتخلص من تعذيبه ،فويل له ما أكثر جهله ! وويح له ما اشد حمقه !
وهل يوجد  في الدنيا عذاب اكبر من العذاب الذي يعالجه ؟أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه ؟
ليست جناية المستبد على أسيره انه سلبه حريته ، بل جنايته الكبرى عليه انه افسد عليه وجدانه، فأصبح ليحزن لفقد تلك الحرية ،وليذرف دمعة واحدة عليها .
ولعرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من القيود ،لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص،وكان ذلك خيرا له من حياة ليرى فيها شعاعا من أشعة الحرية ، ولأتخلص إليه نسمة من نسماتها .                                  
كان في مبدأ خلقه يمشي عريانا ،ويلبس لباسا واسعا يشبه أن يكون ظلة تقيه لفحة الرمضاء،أو هبة النقباء ،فوضعوه في الماط كما يضعون الطفل ،وكفنوه كما يكفنون الموتى وقالوا له : هكذا نظام الأزياء .     
كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه وما يلتئمن مع طبيعته ،فحالوا بينه وبين ذلك ، وملئوا قلبه خوفا من المرض أو الموت ،وأبوا أن يأكل ويشرب إلا كما يريد الطبيب ، وان يتكلم أو يكتب ما يريد الرئيس الديني أو الحاكم السياسي ،وان يقوم أو يقعد ويمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن ،إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات.                                 
السبيل إلى السعادة في الحياة ،إلا إذا عاش الإنسان حرا مطلقا ،ليسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس .                         
الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس ، فمن عاش محروما منها عاش في ظلمة حالكة ، يتصل أولها بظلمة الرحم ، وأخرها بظلمة القبر .                         
الحرية هي الحياة ،ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شأنا بحياة اللعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.                                               
ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثا جديدا ، أو طارئا غريبا ، وإنما هي فطرته التي فطر عليها مذ كان وحشا يتسلق الصخور ، ويتعلق بأغصان الأشجار .          
أن الإنسان الذي يمد يديه لطلب الحرية ليس بمتسول ولا مستجد ، وإنما هو يطلب حقا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية فان ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه ، ولا يد لأحد عنده .                                       

Comments

Popular posts from this blog

ماهي مبادئ الديداكتيك تابع ؟

هندسة وتدبير التعلمات : 1- كيف أدبر فضاء القسم ؟

حديث خلق الروح الاعظم :نور رسول الله حديث لم تسمعه